لقد ازدهرت في بداية القرن العشرين مهنة مميزة ليست كسائر المهن الأخرى، حيث لا تتطلب شهادات عليا ولا خبرات مهنية صعبة، ومع ذلك تدر لأصحابها مبالغ مالية تكفيهم لعيش حياة كريمة وسطية، وفي بعض الأحيان حياة مرفهة. وقد كانت العبارة الّتي اشتهر بها أصحاب هذه المهنة هي: "مساء الخير .. أنا ( … ) من شركة (…) للتجارة، هل يمكنني أن آخذ 5 دقائق من وقتك؟" إذا سبق وسمعت بهذه العبارة من قبل، فأنت تعلم تمامًا عن أي مهنة نتحدث؛ إنها مهنة مندوب المبيعات. انتشرت هذه المهنة انتشار كبيرًا بين الناس وخصيصًا بين طلاب الجامعات حديثي التخرج وسرعان ما أصبحت هذه المهنة مهنة من لا مهنة له، وعمومًا يمكننا تلخيص الهدف الرئيسي لمهنة مندوب المبيعات بجملة واحدة فقط وهي: البيع بأي طريقة، سواء بالاقناع المستهلك أو بالضغط والإلحاح عليه المهم أن تبيع، بطرق مشروعة أو بالتلاعب والكذب المهم أن تبيع، وأن تعود في نهاية اليوم إلى الشركة فارغ اليدين بانتظار اليوم التالي لتبدأ دورة بيع جديدة وتحقق نسبة المبيعات جيدة تمكنك من عيش حياة كريمة ومرفهة.
إلا أن المهمة لم تكن سهلة أبدًا، وسرعان ما اكتشف هؤلاء المناديب أن محاولاتهم في إقناع المستهلكين بضرورة شراء منتجهم تزداد صعوبة بمرور الوقت؛ فالمستهلك يزداد ذكاءً ويشارك خبراته مع الآخرين، كما أن لديه حياة خاصة مزدحمة جدًا بالأعمال والواجبات، وغالبًا ما يُعطى المندوب وقتًا محدودًا جدًا للحديث وإقناع المستهلك، وإن لم يستطع هذا المندوب اكتشاف شخصية المستهلك وتحديد نقاط ضعفه للدخول إلى عقله من خلالها فستكون مهمته شبه مستحيلة.
عندما أدرك المناديب صعوبة هذه المهمة، وأن الطرق المباشرة في البيع لم تعد تنجح مثلما كانت في السابق، وأن الضغط على المستهلكين لشراء منتج معين لن يفيدهم أبدًا بل أصبح يضر بسمعتهم وبسمعة الشركة أيضًا، وهنا كان لا بدّ لهم من البحث عن طرق غير مباشرة للدخول إلى عقل المستهلك والتلاعب به ليصبح هذا المستهلك الأبن البار بالشركة، والذي يطمح دائمًا لإرضاء أصحاب الشركة ويخشى من غضبهم عليه، حتى وإن قصروا في حقه وحرموه من بعض الأغراض والملحقات الأساسية لمنتج ما، مثل حرمانه من شاحن الهاتف الجديد الذي يأتي عادةً في علبة الهاتف الجديد فهذا لن يغضبه أبدًا لأن مستهلكًا بهكذا مواصفات يتميز بعقله الكبير الّذي يستوعب به جشع أصحاب الشركة وطمعهم في تحصيل أكبر قدر من أمواله الشخصية لبناء ثرواتهم، فيغفر لهم عندما يقصرون في حقه لأنه في نهاية المطاف المال لا يجلب السعادة؛ لأن السعادة الحقيقية -من وجهة نظرهم- تأتي مع شعار الشركة ومنتجاتها فقط.
إلا أن مهمة الدخول إلى عقل المستهلك ليست مهمةً سهلةً أبدًا، ولن تنفعنا الطرق التقليدية للدخول لعقله كاستئذانه بحفر جمجمته والدخول لعقله مثلما يفعل الأطباء لذلك توجب علينا البحث عن طرق بديلة أكثر خفة وإبداعية للدخول إلى عقله، وكان من بين هذه الطرق هي دراسة سلوكه الشخصي فمن خلال علم النفس سنتمكن من معرفة كيف يتصرف المستهلك عندما يكون لوحده، ومن خلال علم الاجتماع سنتمكن من معرفة كيف يتصرف عندما يكون محاط بمجموعة من الناس، وبدمج هذين المجالين مع علم الاقتصاد سنتمكن من تحقيق المعادلة الرابحة للشركات، وهي الّتي ستمكننا أخيرًا من الدخول إلى عقل المستهلك ومن دون استئذانه.
لم يتوقع المراقبين الأوائل لحياة المستهلك وتصرفاته وعاداته في الشراء بأن يكون المستهلك بهذه العشوائية والّلا منطقية في قراراته. كانت هذه النتائج صادمة للجميع لأن العُرف السائد للاقتصاديين آنذاك بأن المستهلك لا يتخذ قراراته إلى بناءً على تحليل منطقي ورشيد يستدل به ليتخذ قرارًا عقلانيًا يؤهله للحصول على أكبر منفعة؛ أي أن نظرتهم آنذاك تتلخص في أن الطريق الوحيد للدخول إلى قلب المستهلك هي عن طريق عقله. رسمت هذه الصدمة بداية لحقبة جديدة من الزمن حقبة لا تركز فقط على عقل المستهلك وإنما تركز على دراسة سلوكه كإنسان أولًا وكمستهلك ثانيًا لنتمكن بذلك من الاقتراب أكثر من قلبه ومعرفة الطرق الّتي تؤثر فيه.
يعيش الإنسان في بيئة يؤثر فيها ويتأثر بها وعليه أن يتكيف مع هذه البيئة لكونها تؤثر فيه فتصدر عنه أنواع مختلفة من الأنشطة من أجل إشباع حاجاته وتحقيق أهدافه ولعل دراسة السلوك الإنساني من أهم الدراسات الّتي تمكننا من فهم وتحليل وتفسير كلّ هذه السلوكات، إذ يعرف السلوك الإنساني على أنه سلسلة متعاقبة من الأفعال وردود الأفعال الّتي تصدر عن الإنسان في محاولاته المستمرة لتحقيق أهدافه وإشباع رغباته المتطورة والمتغيرة. تجدر الإشارة إلى أن سلوك المستهلك ما هو إلا جزء من السلوك الإنساني لذلك سنتطرق في العديد من الفصول القادمة لدراسة السلوك الإنساني ومراقبته عن كثب.
في البداية لا بدّ لنا من تفكيك هذا المفهوم إلى أجزائه الرئيسية في عبارة سلوك المستهلك (Consumer Behavior) تضم مصطلحين وهما:
وتستخدم كلمة مستهلك عادة لوصف نوعين من المستهلكين وهما:
تعددت التعاريف الّتي توضح ماهية سلوك المستهلك فمنها من يعرفه على أنه ذلك التصرف الّذي يبرزه المستهلك في البحث عن شراء أو استخدام المنتجات أو الأفكار أو الخبرات الّتي يتوقع أنها ستشبع رغباته وتلبي حاجاته وهذا حسب إمكانياته الشرائية المتاحة. ومنها من يعرفه على أنه العملية المرتبطة بهَمِّ فرد أو جماعة من الأفراد باختيار خدمة أو منتج وشرائه واستخدامه والتخص منه بما يتضمنه من عمليات اتخاذ القرارات السابقة واللاحقة لأي تصرف من هذه التصرفات.
فسلوك المستهلك من هذا المنظور هو تلك العملية الصادرة عن الفرد الّذي يستهلك المنتج إما بهدف إشباع رغباته أو لتلبية حاجاته الّتي تنشأ نتيجة لتنبيه ما.
في بداية الدراسات الخاصة بسلوك المستهلك كان الاعتقاد السائد في أوساط الباحثين بأن سلوك المستهلك يتمحور بالتفاعل الّذي يحدث بين البائع والمستهلك لحظة الشراء وإتمام الصفقة، ولكن تبين لاحقًا بأن هذه النظرة ضيقة جدًا ولا تغطي كلّ المفاهيم الّتي تتعلق بسلوك المستهلك لذلك ظهرت النظرة الأوسع لسلوك المستهلك لتصبح على ثلاث مراحل:
تختلف نظرتنا للأمور باختلاف أدوارنا في دورة سلوك المستهلك في شراء منتج ما، فالمستهلكين يحاولون البحث عن إجابة لبعض الأسئلة مثل: ماذا نشتري؟ وكيف نشتري؟ ولماذا نشتري؟ وما هي المؤثرات الّتي تؤثر على سلوكنا وتؤدي لاقتناعنا واختيارنا للمنتجات؟ وما هي المشاعر الّتي تعترينا بعد استهلاك المنتج؟
بينما يركز المسوقون على فهم أنواع السلوك وما هي العوامل المؤثرة عليه، ولماذا يتخذ المستهلك القرار بالشراء؟ وكيف يتخذه؟ وذلك للوقوف على التفاصيل الّتي تؤدي إلى إشباع رغبات المستهلكين والبحث عن الفرص والتخطيط لتنفيذها لانتهازها وحيازة مكانة في السوق، ومعالجة التهديدات الّتي يمكن أن تتعرض لها العلامة التجارية، والاختيار الصحيح للأسواق وللاستراتيجيات التسويقية الملائمة لكلّ مجموعة من المستهلكين، وتطبيقها بالطريقة الصحيحة والملائمة لاقناع المستهلكين المرتقبين والحاليين بضرورة الشراء أو معاودته.
يتفرع سلوك المستهلك إلى عدة أنواع وذلك بحسب شكل وطبيعة وحداثة وعدد تكرار السلوك:
إن دراسة سلوك المستهلك ليس بالعمل الهين إذ تتعدد النظريات الّتي تحاول تفسير السلوك الإنساني والاستهلاكي وهذا ما أدى إلى صعوبة في إيجاد نمط واحد مقبول لتفسير سلوك الإنسان ومن أهم العوامل الّتي أدت إلى تطور علم سلوك المستهلك عبر الزمن.
توجد العديد من الأسباب الّتي كانت وراء تطور حقل سلوك المستهلك كحقل تسويقي متكامل إذ لاحظ علماء التسويق إلى أن بعضًا من ممارساتهم العملية لا تتفق مع الكثير من المفاهيم الإقتصادية. وبدأ باحثون في علم التسويق في دراسة السلوك الشرائي للمستهلك بقصد الوصول إلى تقسيم شراء المستهلكين ديموغرافيًا أو نفسيًا فعكف ذوو التوجه السلوكي منهم على تطوير استراتيجيات تجزئة السوق إلى قطاعات يضم كلّ قطاع فئة معينة من مستهلكين يشتركون في الأذواق، ولهم نفس الحاجات والرغبات. وهنالك مجموعة من العوامل الّتي ساهمت في تطوير علم سلوك المستهلك أهمها:
دفع التقدم التكنولوجي المنتجين إلى تقديم العديد من المجموعات السلعية الّتي غالبًا ما تكون إما معدلة أو محسنة والقليل منها جديد يُطرح لأول مرة. غير أن معظم المنتجات المطروحة في الأسواق يعتريها الفشل في المراحل الأولى من تقديمها، ويرجع السبب في ذلك إلى التقصير في دراسة حاجات ورغبات المستهلكين، وبالتالي طرح منتجات لا تتماشى مع أذواق المستهلكين مما يؤدي إلى فشلها وانتهاء حياتها بصورة سريعة.
أدى الاهتمام المتزايد بالقضايا البيئة وتلوثها ومصادر النقص المتزايدة في الطاقة والمواد الخام بالمنتجين و المسوقين وصانعي القرار إلى إدراك بعض الآثار السلبية المدمرة للبيئة الّتي تصدر عند إنتاج بعض المنتجات مثل المنظفات الكيماوية، وكشفت الأبحاث الّتي أُنجزت حول سلوك المستهلك العديد من التجاوزات والممارسات المضرة بحياته مما أدى إلى الاهتمام أكثر بإجراء دراسات وأبحاث حول كلّ ما يهم المستهلك وما يضره في حياته الحالية والمستقبلية.
أدى ظهور حركات حماية المستهلك في العالم إلى وجود حاجة ملحة لفهم كيف يتخذ المستهلكون قراراتهم الشرائية بالإضافة إلى تحديد كافة العوامل الّتي تؤثر في اتخاذ قراراتهم بهدف تلبية حاجاتهم وحمايتهم.
بدأت بعض الأجهزة الحكومية المركزية وخاصة الوزارات الأكثر التصاقًا بمصالح المستهلكين الاهتمام أكثر فأكثر بالمستهلك نظرًا ليقينها من محورية الدور الفعال في تحريك عجلة التجارة المحلية لذلك ركزت على التعامل بصرامة مع طريقة تصريف مخلفات المنتجات وسحب المنتجات الّتي تهدد حياة المستهلك مثل المنتجات المقلدة أو تلك الّتي لا تتوافق مع المعايير الدولية.
أدى تزايد عدد الخدمات وتنوعها إلى تحول معظم دول العالم وخاصة النامية منها إلى اقتصاد السوق إذ أصبح من الواضح أن لدى مقدمي الخدمات والسلع الكثير من المشاكل والأمور الّتي يجب التعامل معها بموضوعية وذلك من خلال إجراء جملة من الدراسات حول المستهلك والّتي تساهم في حل هذه المشاكل.
تدرك معظم الشركات في وقتنا الحالي أهمية الدخول إلى الأسواق الخارجية إلا أن غياب المعلومات الكافية عن المستهلكين يحول يصعب الأمر على الشركات لأنه في نهاية المطاف المستهلك هو الأساس في أي دورة التجارة كما أن المعرفة العميقة لسلوك المستهلكين المستهدفين في هذه الأسواق يساعد الشركات على الدخول فيها وهي واثقة بأن لها حصة سوقية تستحق المخاطرة.
تفيد دراسة سلوك المستهلك العديد من الأفراد والشركات بدءًا من المستهلك الفرد إلى الأسرة كوحدة استهلاك إلى الشركات التجارية والمشاريع الناشئة وانتهاءً بالمسوقين، سنناقش في البداية أهمية هذا المجال بالنسبة للمستهلك ومن ثمّ للأسرة ومن ثمّ للشركات التجارية ومن ثم للمسوّقين.
تفيد دراسات سلوك المستهلك في التعرف على كافة المعلومات والبيانات الّتي تساعد المستهلك في الاختيار الأمثل للمنتج بحسب إمكانياته الشرائية، وتفيده أيضًا بمعرفة توفر المنتجات الّتي يرغب بها المستهلك وبالمواصفات المرجوة. بالإضافة إلى أنها تمكنه من فهم ما يتخذه يوميًا من قرارات شرائية، وتساعده على معرفة الإجابة عن الأسئلة المعتادة مثل: ماذا أشتري؟ ولماذا أشتري؟ وكيف أشتري؟
تختلف عملية اتخاذ قرار شراء في الأسرة عن الفرد إذ يكون القرار لفرد مهم مثل الأب أو الأم وعلى هؤلاء تقع مسؤولية اتخاذ القرار المناسب، والّذي يستفيد منه معظم أفراد الأسرة إذ يمكن أن لهؤلاء المؤثرين في الأسرة إجراء كافة التحليلات اللازمة لنقاط القوة أو الضعف لمختلف البدائل السلعية أو الخدمية المتاحة، واختيار البديل أو العلامة التجارية الأنسب والتي تحقق أكبر إشباع ممكن للحاجة الأسرة كما تفيد بعض الدراسات سلوك المستهلك في تحديد مواعيد الشراء الأفضل للأسرة، وأماكن التسوق الأكثر جاذبية بحسب الطبقة الاجتماعية للمستهلك.
لدراسة المستهلك أهمية كبيرة بالنسبة للشركات إذ لا يمكنها الاستغناء عن هذه الدراسة ونلخص هذه الأهمية فيما يلي:
تفيد دراسة سلوك المستهلك رجال المبيعات في الشركات التسويقية بالعديد من الأبعاد الاستراتيجية ومن هذه الأبعاد: